أموال الغد – بقلم دينا عبد الفتاح
يجتمع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على مدار يومين، وهو الاجتماع ربع السنوي الذي يتضمن التوقعات الاقتصادية والدوت بلوت. الأسواق تسعّر بشكل شبه مؤكد خفضًا بمقدار 25 نقطة أساس من النطاق الحالي 4.25%–4.50%، بينما يبقى هناك احتمال ضعيف لخفض أكبر بمقدار 50 نقطة. هذا يأتي في ظل ضغوط علنية من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يطالب بخفض أعمق، ما يضع ملف استقلالية البنك المركزي تحت الضوء، خصوصًا بعد تثبيت ستيفن ميران في مجلس الاحتياطي وبقاء ليزا كوك مؤقتًا بحكم قضائي.
الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة يعطي مبررات لبدء التيسير. التضخم الأساسي في مؤشر أسعار المستهلك بلغ 3.1% في أغسطس على أساس سنوي، بينما سجل مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي 2.6% في يوليو. سوق العمل يظهر علامات على التباطؤ مع ارتفاع البطالة إلى 4.3% وخلق 22 ألف وظيفة فقط في أغسطس، إلى جانب مراجعات سلبية كبيرة للبيانات السابقة. كل هذه المؤشرات دفعت الأسواق إلى ترقب بدء دورة التيسير، وهو ما انعكس في انخفاض الدولار وتسجيل الذهب لمستويات قياسية قبيل الاجتماع.
أما في مصر، فقد خفّض البنك المركزي المصري أسعار الفائدة 200 نقطة أساس في نهاية أغسطس، ليصل سعر الإيداع إلى 22% والإقراض إلى 23%. التضخم الحضري تباطأ إلى 12% في أغسطس، بينما ظل سعر الصرف الرسمي للدولار عند مستوى يقارب 48.1 جنيه. أي قرار من الفيدرالي الأمريكي سيترك بصمة مباشرة على مسار الجنيه وعوائد أدوات الدين المحلية وجاذبية تدفقات المحافظ. ومن الجدير بالذكر أن الفيدرالي أبطأ مرتين من وتيرة تقليص الميزانية العمومية خلال العام، آخرها في أبريل 2025، عندما خفض سقف إعادة استحقاق الخزانة إلى 5 مليارات دولار شهريًا، ما يجعل الأسواق شديدة الحساسية لأي تلميح جديد يتعلق بإنهاء هذه السياسة.
خفض 25 نقطة “دوفِش” (رمز السلام – التيسير النقدي)
في هذا السيناريو، يتوقع أن تهبط عوائد السندات الأمريكية قصيرة الأجل، بينما يواصل الدولار ضعفه ويستمر الذهب والأسهم في الصعود. بالنسبة للأسواق الناشئة، فإن اللهجة الدوفِش تعني تحسّن شهية المخاطرة وزيادة تدفقات المحافظ، خصوصًا في أدوات الدين والأسهم، مع استمرار تضييق هوامش السندات الدولارية. على مستوى مصر، ضعف الدولار سيساعد الجنيه على الاستقرار وربما على تعزيز تدريجي حول مستوى 48 للدولار، ما يقلل من التضخم المستورد. كما أن السوق المحلية قد تستفيد من خفض الفيدرالي عبر استكمال دورة التيسير محليًا إذا سمحت البيانات، في حين ستشهد السندات بالجنيه هبوطًا إضافيًا في العوائد مع دخول الأجانب. أما اليوروبوندز والأسهم المصرية فستستفيد من هذا السيناريو بوضوح عبر تحسن التدفقات وارتفاع الأسعار
خفض 25 نقطة “حوكِش” (الصقر – الصرامة والتشديد)
أما إذا جاء القرار بخفض 25 نقطة أساس فقط مع لهجة متشددة، فإن الدولار سيشهد ارتدادًا طفيفًا، وترتفع عوائد السندات، بينما يتراجع الذهب عن قممه وتتفاعل الأسهم بفتور. في الأسواق الناشئة، يكون التحسن محدودًا وتظل التدفقات انتقائية، تركز على الاقتصادات التي تتمتع بعوائد حقيقية مرتفعة وانضباط مالي واضح. وفي مصر، سيظل الجنيه يتحرك في نطاق ضيق مع ميل بسيط نحو الضعف إذا ارتفع الدولار، وقد يتريّث البنك المركزي في استكمال دورة الخفض. منحنى العائد المحلي سينخفض ببطء، بينما تكون التدفقات الأجنبية أكثر حذرًا وانتقائية بسبب مخاطر سعر الصرف
خفض 50 نقطة
إذا فاجأ الفيدرالي الأسواق بخفض أعمق بمقدار 50 نقطة أساس، فإن رد الفعل سيكون حادًا على المستوى العالمي. ستشهد عوائد السندات الأمريكية قصيرة الأجل هبوطًا قويًا، ويضعف الدولار بشكل واضح، في حين تقفز أسعار الذهب وتنتعش الأسهم بقوة. في الأسواق الناشئة، سيعني ذلك انتعاشًا كبيرًا في عملات هذه الدول وأسواق الدين المحلية، مع ضغوط هابطة إضافية على هوامش السندات الدولارية. أما بالنسبة لمصر، فإن هذا السيناريو سيكون داعمًا واضحًا للجنيه، إذ يمنح البنك المركزي هامش مناورة أكبر لتسريع دورة التيسير محليًا دون مخاوف من خروج تدفقات. انخفاض الدولار في هذا السياق يقلل من التضخم المستورد ويمنح الاقتصاد متنفسًا، لكن سيظل الاعتماد قائمًا على مراقبة أسعار السلع عالميًا، خصوصًا النفط الذي يتداول حاليًا عند 66–67 دولارًا لبرنت.
لا خفض
أما في حال قرر الفيدرالي الإبقاء على الفائدة دون تغيير، وهو سيناريو ضئيل الاحتمال لكنه وارد، فإن رد الفعل العالمي سيكون معاكسًا تمامًا. سيقفز الدولار بقوة، وترتفع عوائد السندات الأمريكية، بينما تتراجع الأسهم والذهب بشكل ملحوظ. في الأسواق الناشئة، ستكون النتيجة بيئة “ريسك-أوف” حادة، مع خروج التدفقات وضغوط قوية على عملات هذه الدول. وفي مصر، سيعني ذلك ضغوطًا آنية على الجنيه وزيادة في تكلفة الاقتراض. البنك المركزي المصري في هذه الحالة سيتريث تمامًا عن أي خفض جديد للفائدة، فيما قد تشهد عوائد أدوات الدين المحلية ارتفاعًا تكتيكيًا، وتتعرض اليوروبوندز لضغوط اتساع في الهوامش بسبب ارتفاع العوائد الأمريكية
التأثيرات المحتملة على مصر عبر السيناريوهات المختلفة
كل سيناريو يتبناه الفيدرالي الأمريكي له انعكاسات مباشرة على الاقتصاد المصري. ففي حال الخفض مع لهجة دوفِش (رمز السلام – التيسير النقدي) أو خفض أعمق بواقع 50 نقطة، يحصل الجنيه المصري على دعم واضح نتيجة ضعف الدولار، وتتراجع الضغوط التضخمية المستوردة، وهو ما يمنح البنك المركزي فرصة أكبر لاستكمال سياسة خفض الفائدة تدريجيًا. هذا السيناريو يزيد من جاذبية أدوات الدين بالجنيه للمستثمرين الأجانب ويعزز من أداء اليوروبوندز والأسهم. أما إذا كان الخفض بلهجة حوكِش (الصقر – الصرامة والتشديد) أو لم يحدث أي خفض على الإطلاق، فإن الجنيه يصبح أكثر عرضة للضغوط قصيرة الأجل، وقد يضطر البنك المركزي المصري للتوقف مؤقتًا عن أي تيسير إضافي للحفاظ على استقرار السوق وجاذبية العوائد المحلية، فيما قد تتسع هوامش اليوروبوندز بفعل ارتفاع العوائد الأمريكية. بهذه الصورة، تظل مصر مرتبطة بشكل مباشر بقرارات واشنطن، حيث يتحدد مسار العملة والسياسة النقدية محليًا وفق نبرة الفيدرالي واتجاه الفائدة العالمية.
التأثير على مصر في كل الاحتمالات
سواء جاء قرار الفيدرالي بخفض 25 نقطة مع لهجة دوفِش (رمز السلام – التيسير النقدي) أو بلهجة حوكِش (الصقر – الصرامة والتشديد)، أو حتى بخفض أعمق يصل إلى 50 نقطة، أو الإبقاء على الفائدة دون تغيير، فإن انعكاساته على مصر ستكون مباشرة. في حالة اللهجة الدوفِش أو الخفض الأكبر، سيتلقى الجنيه دعمًا واضحًا مع استقرار وربما تعزيز تدريجي أمام الدولار، وهو ما يخفّف من التضخم المستورد ويمنح البنك المركزي المصري مساحة أكبر لاستكمال دورة التيسير تدريجيًا. كذلك ستجد السندات بالجنيه مزيدًا من الجاذبية لدى الأجانب، فيما تتحسن أسعار اليوروبوندز وتتوسع شهية المستثمرين للأسهم المصرية. على الجانب الآخر، إذا كانت اللهجة حوكِش أو لم يتم الخفض، فإن الجنيه سيكون أكثر عرضة للضغوط قصيرة الأجل، وقد يتريث البنك المركزي عن أي خطوات جديدة لخفض الفائدة من أجل الحفاظ على استقرار الأسواق وجاذبية العوائد المحلية، بينما تواجه اليوروبوندز اتساعًا في الهوامش مع ارتفاع العوائد الأمريكية. بعبارة أخرى، كل سيناريو في واشنطن له بصمة مباشرة في القاهرة، والجنيه المصري يظل المؤشر الأكثر حساسية لقرارات الفيدرالي في هذه المرحلة.
القرار في ذاته، سواء كان خفضًا بـ 25 أو 50 نقطة أساس أو حتى التثبيت، ليس هو العامل الوحيد المؤثر، بل إن لهجة الفيدرالي ولغة البيان والتوجيهات المستقبلية هي التي ستحدد اتجاه الأسواق في المرحلة المقبلة. بالنسبة للأسواق الناشئة، كل لهجة تميل إلى التيسير ستفتح الباب أمام تدفقات أكبر وتحسّن في بيئة المخاطرة، بينما أي نبرة متشددة ستعيد الحذر وتدفع المستثمرين إلى تفضيل الملاذات الآمنة. أما بالنسبة لمصر، فإن السيناريوهات الأكثر دوفِش تمنح الجنيه دعمًا واضحًا وتفتح المجال أمام البنك المركزي لاستكمال دورة الخفض تدريجيًا، في حين أن السيناريوهات الحوكِش أو الثابتة تفرض ضغوطًا على العملة وتجعل السياسة النقدية أكثر تحفظًا للحفاظ على جاذبية الأصول المحلية.