المصري اليوم
لم تكن السنوات الثلاث الماضية مجرد فترة لإدارة أزمة نقدية هى الأسوأ فى تاريخ الاقتصاد، بل مثلت مرحلة إعادة هيكلة شاملة للسياسة النقدية والمصرفية فى مصر.. فمن السيطرة على التضخم وتحقيق ربحية مرتفعة للجهاز المصرفى، مرورًا بتعزيز الاحتياطيات الأجنبية لمستويات تاريخية وتدفق التحويلات، وصولاً إلى التوسع فى الشمول المالى والتحول الرقمى، استطاع البنك المركزى بقيادة حسن عبد الله أن يرسخ دعائم استقرار اقتصادى ومصرفى يضع مصر على مسار أكثر صلابة نحو المستقبل.
مع مطلع العام 2022، واجه الاقتصاد المصرى سلسلة من الأزمات العنيفة التى هزّت الأسواق العالمية والإقليمية، بدءًا من تداعيات جائحة كورونا، مرورًا بالحرب الروسية الأوكرانية واضطراب سلاسل الإمداد، وصولاً إلى موجة التشديد النقدى عالميًا ونقص السيولة الدولارية داخليًا واشتعال السوق السوداء للعملة.. ورغم هذه التحديات، تمكن البنك المركزى المصرى بإدارة محترفة منالمحافظ حسن عبد الله وفريق العمل معه من إدارة مشهد اقتصادى شديد التعقيد بحزمة من السياسات النقدية والإصلاحات الهيكلية التى عززت استقرار السوق، وأعادت الثقة للنظام المصرفى، ورفعت قدرة البنوك على دعم النشاط الاقتصادى.
ثمار الإصلاح.. تضخم قيد السيطرة وتدفقات قوية تعزز الاحتياطيات ومؤشرات تاريخية للبنوك
كان التضخم التحدى الأكبر أمام صانع السياسة النقدية، إذ بلغ ذروته عند 38% فى سبتمبر 2023، غير أن البنك المركزى لجأ إلى إجراءات جريئة تضمنت رفع أسعار الفائدة بأكثر من 1200 نقطة أساس من بينها 600 نقطة دفعة واحدة فى مارس 2024 مع تحرير سعر الصرف، وزيادة الاحتياطى الإلزامى المفروض على البنوك، وتغيير جوهرى فى آليات عمل السوق المفتوحة لسحب السيولة، وهو ما ساعد تدريجيًا على كبح جماح التضخم لينخفض إلى حدود 13.9% بنهاية يوليو الماضى.. هذا النجاح سمح ببدء دورة خفض الفائدة لأول مرة منذ أكثر من خمس سنوات، إذ خُفضت فى أبريل 2025 بمقدار 225 نقطة أساس، ثم خفض إضافى قدره 100 نقطة فى مايو 2025، ليستقر سعر الإيداع عند 24% وسعر الإقراض عند 25% مع وجود توقعات بتقليص العائد مجددا خلال اجتماع الخميس المقبل.
التحسن فى السياسة النقدية انعكس على المركز المالى للبنك المركزى نفسه؛ فبعد أن تكبد خسائر بلغت 86.2 مليار جنيه فى يونيو 2023، سجل أرباحًا صافية قدرها 22.8 مليار فى يونيو 2024، كما ارتفعت الأصول الإجمالية إلى 6.06 تريليون جنيه مقابل 4.48 تريليون قبل عام واحد فقط، وقفزت احتياطيات الذهب إلى 454.9 مليار جنيه مقارنة بـ 238.6 مليار منتصف 2023، وهو ما عزز من مرونة الاقتصاد أمام الصدمات.
كما انعكست خطط الهيكلة التى قادها حسن عبدالله فى إحداث تطور ملحوظ بمؤشرات السلامة المالية للقطاع المصرفى بنهاية مارس 2025 مقارنة بنهاية العام المالى 2022/2023.. فقد ارتفع العائد على متوسط الأصول إلى 2.6% مقابل 2%، بينما صعد العائد على متوسط حقوق الملكية إلى 39% مقارنة بـ 32.2%، وهو ما يعكس كفاءة البنوك فى استغلال مواردها لتعظيم العوائد.
وعلى صعيد جودة الأصول، تراجعت نسبة القروض غير المنتظمة إلى 2.2% فقط من إجمالى القروض بعد أن كانت 2.9% فى نهاية 2023، مع وصول نسبة مخصصات القروض المتعثرة إلى 87.2%، بما يؤكد تبنى سياسات ائتمانية رشيدة وقدرة البنوك على مواجهة المخاطر، فيما حافظ القطاع المصرفى على قاعدة رأسمالية صلبة، إذ بلغ معدل كفاية رأس المال 18.3%، وهو مستوى يفوق المتطلبات الرقابية الدولية.
أما على صعيد السيولة، فبلغت نسبة السيولة بالعملة المحلية 37.1%، وبالعملات الأجنبية 73.7%، وهى مستويات مرتفعة تدعم الاستقرار.. وفى مؤشر آخر على انتعاش الائتمان ودعم الاستثمارات، ارتفعت نسبة القروض للودائع إلى 63.6% مقابل 53.3% قبل عامين، بما يعكس توسع البنوك فى تمويل مختلف القطاعات الاقتصادية.
على مستوى الموارد الأجنبية، شهدت تحويلات المصريين العاملين بالخارج طفرة كبيرة، إذ بلغت 29 مليار دولار فى الأشهر العشرة الأولى من السنة المالية 2024/2025 بزيادة تتجاوز 77%، منها 12.04 مليار بين يناير وأبريل 2025 وحدها، كذلك ارتفعت التحويلات فى أبريل 2025 إلى 3 مليارات دولار مقابل 2.2 مليار فى الشهر نفسه من 2024.. وبالتوازى، قفزت الاحتياطيات الدولية الصافية إلى أكثر من 49 مليار دولار فى يوليو 2025 مقابل 35.3 مليار فى فبراير 2024.
وساهم الصعود القوى لتدفقات العملة فى القضاء على عجز الأصول الأجنبية للقطاع المصرفى لتسجل فائضًا قدره 14.7 مليار دولار فى يونيو 2025، مقارنة بعجز يعادل 174.4 مليار جنيه بنهاية أبريل 2024.
لم يقتصر النجاح على المؤشرات الكلية، بل امتد إلى الشمول المالى والتحول الرقمى.. فقد ارتفع معدل الشمول المالى إلى 74.8% بنهاية 2024 (52 مليون مواطن)، مقابل نمو قدره 204% منذ 2016، كما ارتفعت نسبة الشمول بين النساء إلى 68.8% (23.3 مليون سيدة)، بينما بلغت بين الشباب 53.1%. فى المقابل، تضاعفت محافظ التمويل الأصغر بنسبة 1350% لتصل إلى 4.6 مليون مستفيد.
ومن خلال مبادرة “حياة كريمة”، جرى إنشاء 17 فرع بنك جديدا وفتح 651.9 ألف حساب، إضافة إلى تركيب أكثر من 1200 ماكينة صراف آلى بالقرى، ما عزز دمج الفئات المهمشة فى المنظومة المصرفية.. وعلى صعيد البنية الرقمية، أطلق البنك المركزى فى مارس 2022 شبكة الدفع الفورى IPN)) التى أحدثت نقلة نوعية فى المدفوعات الإلكترونية على مدار الساعة.
هذه الجهود غير المسبوقة، دفعت عددًا من المؤسسات الدولية للإشادة بمرونة السياسة النقدية المصرية، خاصة فيما يتعلق بإدارة سعر الصرف، معتبرين أن هذا التوجه ساهم بشكل كبير فى تحسّن أداء الجنيه المصرى وتعزيز مصادر النقد الأجنبى، وانعكس فى تراجع سعر صرف الدولار أمام الجنيه، وتحقيق مؤشرات إيجابية فى الاحتياطيات الدولية، وتحويلات المصريين بالخارج، إلى جانب انتعاش السياحة والصادرات.
وحقق الجنيه المصرى أفضل أداءٍ له أمام الدولار منذ بداية عام 2025، إذ أظهرت البيانات تراجع سعر صرف الدولار أمام الجنيه بنسبة 4.9%، إذ سجل 48.36 جنيه فى منتصف أغسطس 2025، مقارنة بـ50.84 جنيه فى يناير من العام نفسه.
وأشادت وكالة “بلومبرج” بهذا الأداء، مشيرة إلى أن الجنيه المصرى سجل أعلى مستوى له هذا العام، بدعم من انخفاض أسعار النفط، وزيادة الصادرات، إلى جانب ارتفاع الإيرادات السياحية وتحويلات العاملين بالخارج.
من جهته، أكد صندوق النقد الدولى أن مرونة سعر الصرف أسهمت فى تحقيق نتائج إيجابية ملموسة، تمثلت فى تقليص الفجوة السعرية بين السوقينالرسمية والموازية، وإنهاء تراكم طلبات الاستيراد، فضلًا عن زيادة قوية فى الإيرادات السياحية وتحويلات المصريين بالخارج.
وأشارت مؤسسة “موديز” إلى أن مرونة سعر الصرف، إلى جانب توافر الاحتياطيات الأجنبية، من شأنها أن تحمى الاقتصاد من الصدمات الخارجية المحتملة، فيما أوضح “جولدمان ساكس” أن استقرار الجنيه خلال الأشهر القليلة الماضية ساعد فى تقليص معدل التضخم الناتج عن الاستيراد، ما يعزز من قدرة الاقتصاد المصرى على التعافى والاستمرار فى المسار الإصلاحى.
من الاستقرار إلى الإصلاح الشامل.. 10 ملفات حاسمة تتصدر أولويات صانع السياسة النقدية
التضخم والاحتياطى والرقمنة.. معارك البنك المركزى فى السنوات الثلاث المقبلة
الملفات المطروحة على أجندة محافظ البنك المركزى تتعدد خلال السنوات المقبلة، لكنها تلتقى جميعها عند هدف واحد: ترسيخ استقرار الاقتصاد المصرى، وتعزيز دوره فى مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.. وبينما يشهد العالم تقلبات جيوسياسية وتباطؤاً اقتصادياً، تسعى مصر إلى بناء قاعدة صلبة من خلال تعزيز الاحتياطى الأجنبى، كبح التضخم، دعم القطاع الخاص، وتبنى مسار جاد للتحول الرقمى والتمويل المستدام.. ويبدو أن الطريق حتى أغسطس 2026 سيحمل الكثير من الفرص والتحديات، لكن الخبراء يتفقون على أن البنك المركزى يسير بخطى واثقة نحو تحقيق أهدافه الاستراتيجية.
بناء حصن الاحتياطيات النقدية
منذ اليوم الأول لتوليه مسؤولية قيادة البنك المركزى، وضع حسن عبد الله نصب عينيه هدفًا واضحًا وصريحًا: إعادة بناء الاحتياطى من النقد الأجنبى ومضاعفته خلال أربع سنوات.. لم يكن هذا مجرد تصريح عابر، بل كان حجر الزاوية فى استراتيجيته لتأمين الاقتصاد المصرى..وبالفعل، تحولت الكلمات إلى أرقام، إذ نجح المحافظ فى قيادة دفة الاحتياطى النقدى نحو قفزة هائلة، ليتجاوز 49 مليار دولار بنهاية يوليو 2025، بزيادة تقدر بنحو 16 مليارا عن مستوياته قبل توليه مهام منصبه.
هذا الإنجاز لم يأت من فراغ، بل كان نتاجًا لسلسلة من العوامل والقرارات الحاسمة.. تتصدر هذه العوامل صفقة “رأس الحكمة” التى ضخت سيولة دولارية ضخمة بلغت 35 مليار دولار، وشكلت نقطة تحول أعادت الثقة فى السوق، وما تلاها من قرارات جريئة للبنك المركزى فى 6 مارس 2024، وأبرزها تحرير سعر الصرف، كان بمثابة المفتاح الذى حرر تدفقات النقد الأجنبى من مصادرها المتعددة.
فقد شهدت تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وهى شريان حيوى للاقتصاد، ارتفاعًا كبيرًا بعد أن شجعهم توحيد سعر الصرف على تحويل أموالهم عبر القنوات الرسمية بدلًا من السوق الموازية.. وفى الوقت نفسه، ساهمت كل من الصادرات، والإيرادات السياحية التى استعادت عافيتها، والاستثمار الأجنبى المباشر، وارتفاع أسعار الذهب- الذى يعد مكونًا رئيسًا فى الاحتياطى – فى تعزيز هذه القاعدة الصلبة.
قال محمد بدرة الخبير المصرفى، إن البنك المركزى المصرى حقق إنجازًا كبيرًا خلال الفترة الماضية فيما يتعلق بملف الاحتياطى الأجنبى، مع الحفاظ فى الوقت نفسه على توازن واستقرار سعر الصرف، وهو ما يُعد من المؤشرات الإيجابية على كفاءة السياسة النقدية التى يُشرف البنك المركزى على تنفيذها.
وأوضح أن من بين أبرز المؤشرات الدالة على تحسن الوضع النقدى، هو التحول الكبير الذى شهده المركز المالى للقطاع المصرفى المصرى، ليتحول عجز الأصول الأجنبية إلى فائض تجاوز 10 مليارات دولار، وهو ما يعكس استعادة الثقة بالقطاع المصرفى وقدرته على التعامل مع الالتزامات الخارجية.
وأشار إلى أن هناك عوامل عدة ساهمت فى هذا التحسن، أبرزها اتباع البنك المركزى سياسة التشديد النقدى خلال الفترة الماضية، والتى ساهمت فى تعزيز جاذبية الجنيه المصرى، إلى جانب تحسن نسبى فى مناخ الاستثمار، وتدفق رؤوس أموال من دول الخليج، وهو ما دعم موقف الاحتياطى الأجنبى.
وتوقع بدرة أن يصل حجم الاحتياطى إلى نحو 60 مليار دولار خلالالعام المقبل، بما يتماشى مع الاتفاقات القائمة مع صندوق النقد الدولى، مؤكدًا أن مصر تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافها فى هذا الملف الحيوى.
وأضاف أن البنك المركزى يراقب عن كثب معدلات التضخم، نظرًا لانعكاسها المباشر على توجهات السياسة النقدية، مؤكدًا أن الحفاظ على معدل تضخم ضمن المستويات المستهدفة يعد شرطًا أساسيًا لاستمرار تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلى، وعلى رأسها احتياطى النقد الأجنبى.
وتابع بدرة أن هناك بوادر لتوجه البنك المركزى نحو التيسير النقدى بعد فترة من التشديد، وهو ما ظهر فى عدد من القرارات الأخيرة، من بينها رفع الحد الأقصى لشراء العملات الأجنبية، ورفع حدود استخدام بطاقات الائتمان خارج البلاد، وهى خطوات تهدف إلى دعم الثقة فى النظام المصرفى وتيسير التعاملات للمواطنين والشركات.
وأكد أن الانخفاض الأخير فى أسعار الفائدة يُعد مؤشرًا إضافيًا على هذا التحول التدريجى فى السياسة النقدية، والذى يُتوقع أن يستمر حال استمرت معدلات التضخم فى التراجع، واستمرار الاستقرار فى تدفقات النقد الأجنبى.
كبح جماح التضخم.. المعركة الأكثر إلحاحًا
لم تكن مصر بمنأى عن موجة التضخم العالمية التى أشعلتها الحرب الروسية الأوكرانية والتوترات الجيوسياسية فى المنطقة، فقد قفز معدل التضخم الأساسى فى السوق المحلية إلى مستوى قياسى بلغ 41% فى يونيو 2023، مهددًا القوة الشرائية للمواطنين واستقرار الأسواق..كانت هذه المعركة هى الأكثر إلحاحًا على طاولة محافظ البنك المركزى.
ولمواجهة هذا “الوحش الجامح”، استخدم البنك المركزى أدوات السياسة النقدية بصرامة وحسم. فتم رفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية وصلت إلى 27.25% لكبح الطلب وتقليل الضغوط التضخمية، كما تم رفع نسبة الاحتياطى الإلزامى على البنوك من 14% إلى 18% لسحب جزء من السيولة الفائضة فى السوق، بالإضافة إلى ذلك، تم تعديل آلية عمليات السوق المفتوحة لضمان امتصاص أكثر فعالية للسيولة، من خلال قبول جميع العروض المقدمة من البنوك بسعر متوسط الكوريدور، بدلاً من نظام التخصيص الذى كان معمولاً به سابقًا.. هذه الإجراءات أثمرت عن نجاح ملموس، إذ انخفض معدل التضخم الأساسى بشكل كبير ليصل إلى 11.6% بنهاية يوليو 2025، ما سمح للبنك المركزى بالبدء فى دورة تيسير نقدى، تمثلت فى خفض أسعار الفائدة بنحو 3.25% منذ بداية 2025.
يرى محمد عبدالعال، الخبير المصرفى، أن الاستمرار فى خفض معدلات التضخم يمثل أولوية قصوى فى المرحلة الراهنة، لما له من تأثير مباشر على ضبط الأسواق والحفاظ على القوة الشرائية للمواطن، ويتطلب ذلك تنسيقًا دقيقًا ومُحكمًا بين أدوات السياسة النقدية والمالية، مع مراعاة عدم التأثير سلبًا على معدلات النمو الاقتصادى.
وأكد ضرورة تعزيز احتياطات الدولة من النقد الأجنبى، كأداة استراتيجية لضمان الاستقرار المالى، وتوفير غطاء كاف للواردات الأساسية وسداد الالتزامات الخارجية، بما يدعم ثقة المستثمرين والأسواق فى الاقتصاد الوطنى.
كما يرى أن أحد المحاور الأساسية على أجندة المحافظ تتمثل فى توفير الموارد الدولارية الكافية لتأمين احتياجات الدولة من السلع الاستراتيجية والمنتجات البترولية ومستلزمات الإنتاج، لتجنب أى اختناقات أو ضغوط سعرية قد تؤثر على استقرار السوق المحلية.
ويُبرز عبدالعال أهمية التنسيق المتواصل بين الحكومة والبنك المركزى لضمان استقرار سياسة سعر الصرف، بما يعكس واقع الاقتصاد ويُحفّز على زيادة التدفقات الدولارية، من خلال موارد محلية حقيقية ومستدامة.
ووضع الخبير المصرفى القطاع الخاص فى قلب استراتيجية النمو، مؤكدًا ضرورة إتاحة التمويل اللازم لهذا القطاع الحيوى، عبر سياسات تحفيزية تُشجع على ضخ الاستثمارات وتوجِد فرص عمل حقيقية، ما يسهم فى دفع عجلة النمو الاقتصادى.
ورغم أهمية هذه الملفات، فإن «عبدالعال» يُقر بأن محافظ البنك المركزى حسن عبد الله يواجه فى ولايته الجديدة تحديات ضاغطة، أبرزها تداعيات التوترات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، والتباطؤ فى معدلات النمو الاقتصادى عالميًا، ما يزيد من صعوبة اتخاذ قرارات متوازنة تحقق الاستقرار النقدى دون التضحية بالنمو.
وأضاف أن التحديات الداخلية، لا تقل خطورة، وتتجسد فى محدودية الموارد، وتزايد أعباء الدين الخارجى، والحاجة إلى تنسيق فعال بين السياسات النقدية والمالية، وهيكلة أدوات المواجهة الاقتصادية بما يواكب التطورات المتسارعة.
ومن بين أبرز الملفات المفتوحة على طاولة المحافظ، يرى محمد عبد العال أن الحفاظ على استقرار الأسعار، واستمرار المفاوضات مع صندوق النقد الدولى فى مقدمتها، وهو ما يتطلب رؤية واضحة للمرحلة المقبلة، ومهارة تفاوضية عالية، لتحقيق أفضل شروط تخدم أهداف الدولة الاقتصادية.
بنوك الأونلاين.. ثورة رقمية على الأبواب
استكمالًا لجهود الدولة فى التحول نحو اقتصاد رقمى، يأتى ملفا البنوك الرقمية وخدمة اعرف عميلك الإلكترونية (E-KYC) كأولوية متقدمة على أجندة المحافظ.. ففى يوليو 2023, وضع البنك المركزى الإطار التنظيمى لإطلاق البنوك الرقمية، وفى خطوة تاريخية، منح الموافقة الرسمية لشركة “مصر للابتكار الرقمى” للتحول إلى”onebank”، ليصبح أول بنك رقمى متكامل فى مصر يقدم خدماته حصريًا عبر القنوات الرقمية.
هذه الخطوة ليست مجرد تحديث تكنولوجى، بل بوابة لتعزيز الشمول المالى عبر الوصول إلى شرائح جديدة من المجتمع، خاصة الفئات المهمشة ماليًا، وخفض التكاليف التشغيلية، وتقديم خدمات مصرفية مبتكرة ومرنة تتماشى مع رؤية مصر 2030.
تفعيل هوية العميل الإلكترونية (E-KYC)
ولأن البنوك الرقمية لا يمكن أن تعمل من دون آلية آمنة للتحقق من هوية العملاء عن بعد، فإن تفعيل مشروع “E-KYC” يسير بالتوازى، فيهدف المشروع إلى إنشاء هوية مالية إلكترونية تسمح للمواطنين بفتح حسابات بنكية من أى مكان دون الحاجة لزيارة الفرع، وقد ساهم البنك المركزى بقوة فى هذا المشروع عبر تأسيس “شركة الهوية المالية الرقمية”.
قال أحمد طلعت، الخبير المصرفى، إن قطاع التحول الرقمى بالبنك المركزى المصرى حقق خطوات متقدمة فى ملف الخدمات المصرفية الرقمية خلال الفترة الأخيرة، مشيرًا إلى أن انطلاق أول بنك رقمى فى مصر يُعد نقلة نوعية فى القطاع المصرفى، إذ يتيح تقديم الخدمات البنكية بشكل إلكترونى أسرع وأكثر كفاءة، دون الحاجة إلى التوجه للفروع التقليدية.
وأضاف طلعت أن البنوك بدأت بالفعل اتخاذ خطوات جادة نحو تطبيق نظام التعرف على هوية العملاء إلكترونيا (E-KYC)، معتبرًا أن هذه الخطوات تمثل تحولًا جوهريًا فى البنية التحتية المصرفية الرقمية، وتفتح آفاقًا جديدة أمام تقديم خدمات متطورة وآمنة للعملاء، لذا فإنها فى مقدمة أولويات المحافظ خلال الفترة الراهنة.
وأكد أن منظومة الهوية الرقمية لا تقتصر فقط على التحقق من هوية العميل، بل تشمل أيضًا كيفية تداول المستندات والعقود الإلكترونية، مع ضرورة وجود بنية قانونية واضحة تُنظم هذه العمليات.
وتوقع “طلعت” أن يؤدى تطبيق الهوية الرقمية والتوقيع الإلكترونى إلى تسريع وتيرة المعاملات البنكية، وزيادة عدد العملاء المستفيدين من الخدمات، بشرط رفع مستوى الوعى الإلكترونى لدى المواطنين، خاصة فى المناطق التى لا تزال تعتمد على النظم التقليدية فى التعاملات المالية.
توسيع مظلة الشمول المالى
أصبح ملف الشمول المالى قصة نجاح مصرية بامتياز، فقد واصلت معدلاته اتجاهها التصاعدى لتصل إلى 74.8% بنهاية عام 2024، بمعدل نمو مذهل بلغ 204% منذ عام 2016.
قال صبرى البندارى الخبير المصرفى، إن البنك المركزى المصرى، حقق نجاحات ملحوظة خلال الفترة الماضية فى ملفات حيوية، أبرزها السيطرة على التضخم، وإدارة سعر الفائدة، ودعم الاحتياطى النقدى.
وأضاف أن ملفى التحول الرقمى والشمول المالى يحظيان بأولوية كبيرة داخل البنك المركزى، إذ شهد هذا المسار تقدمًا ملحوظًا، لتصل نسبة الشمول المالى إلى أكثر من 74%، موضحًا أن بداية العمل على هذا الملف كانت من خلال مبادرات بسيطة مثل تخفيض رسوم فتح الحسابات، إلا أنه تطور ليشمل أفكارًا ومزايا أكثر تنوعًا، مثل تخصيص فعاليات للشمول المالى تستهدف فئات محددة كالشباب والمرأة، وهو ما ساهم فى توسيع قاعدة العملاء وزيادة عدد المتعاملين مع القطاع المصرفى بشكل ملحوظ.
وأشار البندارى، إلى أن البنوك تركز حاليًا على الوصول إلى جميع فئات المجتمع، خاصة فى المناطق الريفية، إضافة إلى الشباب والمرأة، وذلك من خلال تطوير الخدمات الرقمية وتسهيل الحصول على التمويل والخدمات المصرفية، مثل القروض الإلكترونية وسداد الفواتير عبر القنوات الرقمية.
وأكد أن الشمول المالى يهدف إلى دمج الاقتصاد غير الرسمى فى المنظومة الرسمية، من خلال تيسير إجراءات التراخيص وتقديم دورات تدريبية للمستفيدين، إلى جانب تسريع فتح الحسابات وتوفير الخدمات البنكية بمرونة أكبر.
محركات النمو.. مبادرات جديدة لدعم القطاعات الاقتصادية
إدراكًا منه لأهمية دعم القطاعات الإنتاجية، يواصل البنك المركزى طرح مبادرات تمويلية مبتكرة. فمع بداية عام 2025، أطلق مبادرة بقيمة 30 مليار جنيه لدعم القطاعات الصناعية ذات الأولوية، بفائدة 15%، بهدف تمويل شراء الآلات وخطوط الإنتاج، كما أعلن فى أغسطس 2025 عن دراسة مبادرات جديدة منخفضة العائد لدعم القطاع الخاص، تماشيًا مع خطة الدولة لزيادة مساهمته فى النشاط الاقتصادى.
وأكد الخبير المصرفى أحمد أبوالخير، أن الاقتصاد المصرى رغم تجاوزه صدمات الأعوام السابقة، لا يزال بحاجة ملحة إلى مبادرات تمويلية مبتكرة تتجاوز الحلول التقليدية المعتادة، مشددًا على أن هذه المبادرات يمكن أن تشكل رافعة رئيسية لدعم مختلف القطاعات الاقتصادية وتعزيز النمو المستدام.
وأشار إلى أن القطاع الصناعى يأتى فى صدارة القطاعات المستفيدة من مثل هذه المبادرات، إذ يعد من أبرز المحركات المحتملة للنمو، لافتًا إلى أن تحديث المصانع، وإدخال خطوط إنتاج متطورة، وتوطين الصناعات البديلة للواردات، كلها خطوات تتطلب برامج تمويل خاصة، قادرة على توفير السيولة اللازمة بأسعار فائدة تفضيلية،
أضاف أن تمويل رأس المال العامل يُمثل عنصرًا حاسمًا لضمان استمرارية نشاط المصانع وقدرتها على المنافسة محليًا وإقليميًا، لافتًاإلى أهمية الأمن الغذائى والذى بات أولوية كبرى على مستوى العالم، وهو ما يفرض على مصر تعزيز قدراتها الإنتاجية الزراعية.
وأوضح أن تبنى تقنيات الرى الحديثة والزراعة الذكية، إلى جانب التوسع فى التصنيع الزراعى، يحتاج إلى حلول تمويلية مرنة وميسرة، لافتًا إلى أن دمج التمويل الأخضر فى هذا القطاع يمكن أن يحقق نتائج مزدوجة، من خلال رفع الإنتاجية وخفض التكاليف، مع الالتزام فى الوقت نفسه بالمعايير البيئية العالمية.
وفيما يخص المشروعات الصغيرة والمتوسطة، قال أبوالخير إن القطاع ورغم توسع البنوك فى تمويله مؤخرًا، لا يزال بحاجة إلى أدوات جديدة مثل التمويل المشترك بين أكثر من بنك، ورأس المال المخاطر لدعم الشركات الناشئة، إلى جانب تبسيط الإجراءات البيروقراطية التى تحد من وصوله إلى الائتمان.
الإقراض والادخار الرقمى.. التمويل فى متناول الجميع
فى إطار التحول نحو مجتمع أقل اعتمادًا على النقد، يبرز مشروع الإقراض والادخار الرقمى كأحد الملفات المهمة التى يسعى المحافظ لاستكمالها، بناءً على التشريعات التى أقرها “المركزى”، أصبح بإمكان البنوك الاعتماد على “التقييم السلوكى” للعملاء لمنح قروض فورية عبر محافظ الهاتف المحمول. هذا يعنى أن مدى انتظام العميل فى دفع فواتيره أو معدل استخدامه لهاتفه يمكن أن يصبح بديلاً عن الطرق التقليدية لتقييم الجدارة الائتمانية.. هذه الآلية تفتح الباب أمام فئات واسعة من المواطنين الذين ليس لديهم أى تاريخ ائتمانى للحصول على تمويل.
وفى هذا السياق قال الخبير المصرفى، هانى أبوالفتوح، إن مشروع الإقراض والادخار الرقمى يمثل نقلة استراتيجية فى مسار تحديث الهيكل المالى المصرى، تتيح وصول التمويل لفئات واسعة من المواطنين لم يكن لديها أى اتصال سابق بالبنوك، وهو ما يسهم بشكل مباشر فى تعزيز الشمول المالى وزيادة قاعدة المتعاملين مع القطاع المصرفي.
وأوضح أن نجاح هذه المشروعات يتطلب تحقيق توازن دقيق بين تشجيع الادخار وتحفيز الاستثمار، مع ضمان ألا يتحول الاقتراض الرقمى إلى عبء إضافى على المواطن العادى، مؤكدًا أن هذه الخطوة لا بد أن تُدار بحذر لضمان استدامة آثارها الإيجابية على الاقتصاد والمجتمع.
وأشار إلى أن بيانات البنك المركزى الأخيرة أظهرت نموًا كبيرًا فى استخدام المحافظ الإلكترونية وتوسعًا ملحوظًا فى تطبيقات الدفع الفورى مثل “InstaPay”، وهو ما يعكس سرعة تبنى الخدمات الرقمية من قبل المواطنين، ويؤكد أن البنية التحتية الرقمية بدأت تلعب دورًا محوريًا فى إعادة تشكيل طبيعة التعاملات المالية.
وأكد أن الادخار والإقراض الرقمى، سيسهم فى تسريع وتيرة الشمول المالى وربطه بالبطاقات والمحافظ الذكية، وخفض اعتماد المواطنين على التعاملات النقدية التقليدية، وتحفيز القطاع الخاص والمتعاملين الصغار عبر دعم مالى رقمى سريع وفعّال، وتعزيز قدرة البنوك على تقديم خدمات مخصصة ومعاملات أكثر سلاسة ومرونة، ورفع كفاءة القطاع المصرفى وخفض تكاليف المعاملات بشكل ملحوظ، وتوسيع قاعدة المتعاملين مع البنوك بما يعمّق من السوق المحلية، وتحسين آليات الإقراض خاصة للقطاع غير الرسمى والمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
ترسيخ مبادئ التمويل المستدام
لم يعد النمو الاقتصادى هدفًا منفصلاً عن حماية البيئة وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن هذا المنطلق، كثف البنك المركزى جهوده فى مجال التمويل المستدام، إذ ألزم البنوك بدمج معايير البيئة والمجتمع والحوكمة(ESG) فى سياساتها الائتمانية، وقد أظهرت الأرقام الرسمية التزام 75% من البنوك بهذه المبادئ، وإطلاق أكثر من 24 منتجًا ماليًا مبتكرًا يستهدف قطاعات مثل الطاقة المتجددة والزراعة المستدامة.
ويرى حمدى عزام، نائب رئيس بنك التنمية الصناعية سابقًا، أن البنوك المصرية حققت تقدمًا ملموسًا، لكنه يؤكد أن هذه الخطوات “ما زالت فى مراحلها الأولى مقارنة بالتجارب الدولية”.
أشار عزام إلى ضرورة تقديم حوافز أقوى للقطاع المصرفى، مثل توفير تمويلات ميسرة بضمانات حكومية، وإعفاءات ضريبية للمشروعات الخضراء، لتمكين البنوك من التوسع بشكل أكبر فى هذا المجال الحيوى لمستقبل مصر.
استكمال برنامج طرح البنوك فى البورصة
خطوة محورية يمثلها طرح حصص فى البنوك المملوكة للدولة، سواء فى البورصة أو لمستثمر استراتيجى، ضمن خطة الحكومة لتوسيع قاعدة الملكية وتمكين القطاع الخاص، فبعد النجاح فى طرح المصرف المتحد، يظل بنكا “القاهرة” و”العربى الأفريقى الدولى” فى دائرة الاهتمام.
هذا الملف، الذى يقع على أجندة المحافظ، من شأنه أن ينشط سوق المال المصرى، ويعزز من ثقة المستثمرين الأجانب، ويوفر موارد مالية جديدة للدولة.
وتقول الخبيرة المصرفية سهر الدماطى إن “طرح بنكى القاهرة والعربى الأفريقى الدولى يمثل خطوة بالغة الأهمية” موضحة أن تأجيل الطرح فى فترات سابقة “لا يعكس تعثرًا بقدر ما يجسد رؤية استراتيجية مدروسة”، حيث تسعى الحكومة لاختيار التوقيت المثالى الذى يضمن تقييمًا عادلاً ويحقق أكبر قدر من الجاذبية للمستثمرين.
المحرك الرئيسى.. تمكين القطاع الخاص وزيادة تمويلاته
يؤمن البنك المركزى بأن القطاع الخاص هو المحرك الرئيسى للنمو وإتاحة فرص العمل، وتؤكد الأرقام هذا التوجه، إذ ارتفع حجم القروض المقدمة للقطاع الخاص ليصل إلى 42.3% من إجمالى القروض بنهاية مارس 2025، ويسعى المركزى إلى زيادة هذه النسبة، مع التركيز على المشروعات الإنتاجية والصناعية ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
ويؤكد الخبير المصرفى محمد السيد أن البنوك “مطالبة بتعزيز دورها كمؤسسات تنموية، وليس مجرد ممول”، وذلك عبر تقديم استشارات فنية وخدمات مرافقة تساعد الشركات على النمو المستدام، كما يشدد على ضرورة أن تتسم البنوك “بقدر أكبر من المرونة فى إجراءات التمويل، وتوسيع قاعدة المنتجات لتشمل حلولاً مبتكرة مرتبطة بالتحول الرقمى والتمويل الأخضر”.