قال الدكتور وسام حسن فتـوح، الأمين العام لإتحاد المصارف العربية، إن الملتقى السنوي لمدراء الالتزام في المصارف العربية يُشكل محطة محورية لتعزيز ثقافة الإمتثال في المصارف العربية، وفرصة لتبادل الخبرات وتنسيق الجهود بين الجهات الرقابية والمصرفية، بما يُسهم في ترسيخ بيئة مالية أكثر شفافية وإستدامة.
واستكمل فتـّوح، ان منطقتنا شهدت خلال العام الماضي تحوُّلات كبيرة تحمل مؤشّرات إيجابية وفرصاً جديدة، من أبرزها تراجع مصادر تمويل الإرهاب، خصوصاً في دول مثل سوريا ولبنان والعراق. غير أن هذا لا يعني أن المهمة قد إكتملت. فلتعزيز هذا الإنجاز، لا بد من مواجهة التحدّي المستمر المتمثل في الإقتصاد النقدي، كذلك الأساليب البديلة لغسل الأموال، كإستغلال الأصول عالية القيمة )من أعمال فنية وتحف وأحجار كريمة ومقتنيات ثمينة( في تغطية حركة الأموال غير المشروعة.
وتابع فتوح خلال كلمته بالملتقى السنوي لمدراء الإمتثال في المصارف العربية لعام 2025، أنه طالما ظل النقد مهيمناً، وبقيت هذه القنوات خارج الرقابة، ستظل الشفافية محدودة، وستجد التدفقات غير المشروعة طريقها، وستبقى الثقة بالنظام المالي موضع إختبار. وهذا الواقع يُؤكد أن تجفيف منابع تمويل الإرهاب لا يكتمل إلاّ من خلال إصلاح مصرفي شامل. فالإصلاح لا يعني الإمتثال فحسب، بل بناء هياكل وأنظمة حوكمة تُمكّن المصارف من قيادة مسار التكامل والتحديث والنمو في إقتصاداتنا.
وأوضح فتوح لقد كان إتحاد المصارف العربية في طليعة الجهود الرامية إلى تحديث الممارسات المصرفية وتعزيز الإمتثال وتوسيع الشمول المالي في العالم العربي، بالتعاون الوثيق مع السلطات الرقابية والمصارف المركزية والمؤسسات المالية الدولية.
ففي العراق، قدّم الإتحاد دعماً مستمراً للقطاع المصرفي، غير أن التقدم لا يزال محدوداً بسبب غياب شريك فاعل وموحّد (ولا أعني هنا البنك المركزي العراقي). هذا الواقع أعاق مسار الإصلاح الحقيقي. كما نلحظ وجود فجوة واسعة بين المصارف الكبيرة الملتزمة بالمعايير الدولية، وتلك التي نشأت كمكاتب تحويل مالي وتحوّلت لاحقاً إلى مصارف، والتي لا تزال تواجه تحدّيات تنظيمية وإمتثالية جدّية.
وتابع لا بدّ من معالجة هذا الواقع، إذ لا يُمكن لأي تعافٍ إقتصادي مستدام في العراق أن يتحقق من دون إصلاح مصرفي حاسم وشجاع. فالقواعد موجودة، لكن الإرادة لتنفيذها يجب أن تكون أقوى وأكثر إصراراً.
أما في سوريا، فهناك فرصة حقيقية للتقدُّم بعد رفع العقوبات، رغم التحدّيات العميقة التي خلّفتها سنوات الحرب وضعف التشريعات وفقدان الثقة. وقد وضع الإتحاد خارطة طريق تدريجية تبدأ بإعادة هيكلة المصارف المتعثّرة، وبناء منظومة إمتثال فعّالة، وترسيخ مبادئ الحوكمة والشفافية، وتنفيذ برامج تدريب وتأهيل للعاملين، وصولاً إلى تحقيق نمو مستدام يقوم على الإبتكار والشراكات الدولية.
في لبنان، لا يزال الإقتصاد يعتمد بدرجة كبيرة على التحويلات والسياحة، اللتين تضخّان ما بين 10 و12 مليار دولار سنوياً، جزءٌ كبيرٌ منها على شكل أموال نقدية. إلاّ أننا نشهد تحوُّلاً تدريجياً نحو إستخدام البطاقات المصرفية، وهو تطوُّر مشجّع نحو الحدّ من التعامل النقدي وتعزيز الثقة بالقطاع المصرفي.
أما في اليمن — وأعني تحديداً عدن —، فقد حقّقت المصارف تقدُّماً ملحوظاً في تطبيق معايير الإمتثال ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رغم الظروف الصعبة، ويفتخر الإتحاد بمساهمته في دعم هذه الجهود وفي تأسيس جمعية مصارف يمنية، وهي تجربة تمثل نموذجاً في الصمود والإصرار.
في المقابل، شهدت المنطقة العربية تطوُّرات تنظيمية مهمة، لا سيما في مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث يفرض حجم القطاع المصرفي هذه الدول وتشعُّب علاقاته التجارية العالمية ضرورة الحفاظ على روابط متينة مع المؤسسات المالية الدولية والإلتزام بأعلى معايير الشفافية والإمتثال، مدعومة ببنية تقنية متطوّرة.
كما شهدت الإمارات العربية المتحدة والمملكة الأردنية الهاشمية إصلاحات تنظيمية عميقة أفضت إلى خروجهما من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، ما عزّز ثقة العالم بأنظمتهما المالية. وقد تابع الإتحاد هذه التطوُّرات بإهتمام بالغ.
ووجه فتوح تحية تقدير إلى جمهورية مصر العربية، وبالأخص إلى البنك المركزي المصري برئاسة معالي المحافظ حسن عبد الله، و لوحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب برئاسة سعادة المستشار أحمد سعيد خليل، على الإعتراف الدولي المرموق الذي منحه فريق العمل المالي (FATF) لمصر، بعد إبراز تجربتها كنموذج عالمي في تعزيز الشمول المالي ضمن إطار مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. إن هذا التقدير يعكس نجاح مصر في تحقيق توازن فريد بين النزاهة والإبتكار والشمول، ويؤكد الرؤية الإستراتيجية للبنك المركزي ووحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وإلتزام مصر الراسخ ببناء منظومة مالية شفافة وقادرة على الصمود.
وقد أشار تقرير الـFATF إلى مجموعة من الإجراءات الريادية التي إعتمدها البنك المركزي، من أبرزها تبسيط إجراءات العناية الواجبة، وتوسيع الوصول إلى الخدمات المالية للشباب والمشروعات الصغيرة، وتمكين المرأة والفئات الأخرى من خلال الخدمات المصرفية الرقمية والتقنيات المالية الحديثة، وهي إنجازات تُعزّز مكانة مصر إقليمياً ودولياً، وتشكل نموذجاً يُحتذى به في تحقيق نمو شامل ومستدام.
وأشار فتوح أنه في العام 2015، أظهر المسح المشترك بين صندوق النقد الدولي وإتحاد المصارف العربية حول ظاهرة De-Risking مدى تأثيرها السلبي على المنطقة، إذ واجه نحو 40% من المصارف في 17 دولة عربية إرتفاعاً في تكاليف الإمتثال، وأصبحت التحويلات وتدفُّقات الأعمال أكثر صعوبة وكلفة.
واليوم، بعد عشر سنوات، لا تزال هذه الظاهرة تُمثل تحدّياً رئيسياً نتيجة الضغوط التنظيمية العالمية، إذ تُواجه مصارفنا صعوبات في الحفاظ على علاقاتها بالمصارف المراسلة. لكن الفارق بين العام 2015 واليوم هو أن البدائل قد تطوّرت، فظهرت حلول جديدة للمدفوعات والتحويلات عبر الحدود، مثل «البلوكتشين» ومقدّمي خدمات الأموال والدفع الرقمي. غير أن هذه القنوات لا تزال غير منظّمة بالكامل، ما قد يُشكل مخاطر كبيرة إذا تُركت من دون إطار رقابي واضح. ومن الضروري أن تُخضع هذه الوسائل الجديدة لأطر تنظيمية متماسكة تضمن أن تكون عاملاً داعماً لإستقرار النظام المالي العالمي، لا تهديداً له.
وقال فتوح في ختام كلمته إنّ رسالة هذا الملتقى هي رسالة عزم وتصميم. فنحن ندخل مرحلة جديدة تتوافر فيها مقوّمات الإصلاح والنمو والتكامل. ويُواصل إتحاد المصارف العربية أداء دوره القيادي، بالتعاون مع الهيئات الرقابية والسلطات الإشرافية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ومع المصارف، لتعزيز التعاون وتطوير قطاع مصرفي عربي قويّ ومتكامل يعمل بثقة وكفاءة