تحليل تكتبه – دينا عبد الفتاح
من الذهب إلى النمو: بين مجتمع الفُرجة ومجتمع المشاركة
في أغسطس الماضي، قرر البنك المركزي خفض أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس. القرار لم يكن اقتصاديًا بحتًا، بل فتح بابًا واسعًا للنقاش المجتمعي. الذهب قفز ليسجل نحو 4,650 جنيهًا لعيار 21 وأكثر من 5,300 لعيار 24. الدولار بدوره ظل ثابتًا رسميًا وسط توقعات بتراجعه في الفترة المقبلة. ومع ذلك، بدلاً من أن تتجه الأنظار إلى المصانع والمشروعات، انشغل الناس بالشاشات: متابعة الأسعار لحظة بلحظة وكأن المجتمع في صالة عرض ضخمة يتابع أحداثًا لا يشارك في صناعتها.
هذا المشهد يكشف عن ما يمكن تسميته بمجتمع “الفُرجة”. مجتمع ينتظر دائمًا إشارة من الخارج: قرار البنك المركزي، حركة السوق، أو خبر اقتصادي عابر. في هذه الحالة، حتى إذا تضاعفت قيمة ما في الجيوب من ذهب أو دولار، يبقى الواقع على حاله: بلا مصانع جديدة، بلا وظائف، بلا قيمة مضافة.
على الجانب الآخر، هناك ما يمكن وصفه بمجتمع “المشاركة”. مجتمع يرى في خفض الفائدة فرصة للاقتراض الأرخص، وفي استقرار الدولار مؤشرًا لتوسيع النشاط، وفي ارتفاع الذهب رسالة أن الأمان الحقيقي لا يوجد في المعدن الأصفر، بل في مشروع منتج يخلق دخلًا مستدامًا. هذا المجتمع هو الفاعل لا المفعول به، يكتب أرقام النمو بيده ويصنع إشاراته للعالم بدلاً من أن ينتظرها من شاشة الأسعار.
الادخار في حد ذاته ليس خطأ. كل مجتمع يحتاج إلى مخزون أمان. لكن الادخار يتحول إلى عبء حين يصبح تكديسًا منزليًا: سبائك ذهب مخزّنة في البيوت، دولارات في الأدراج، وسيولة بعيدة عن البنوك والمشروعات. المال في هذه الحالة موجود لكنه نائم، خارج الدورة الاقتصادية. أما الادخار الموجّه إلى البنوك أو المشاريع أو البورصة، فهو بذرة تنمو وتتحول إلى طاقة إنتاجية تعود بالنفع على الأفراد والمجتمع.
لماذا إذن يختار الناس طريق الفُرجة بدل المشاركة؟ الأسباب متعددة. اقتصاديًا، تراجع العملة والتضخم المتكرر زرعا شعورًا بأن الذهب والدولار هما الملاذ الآمن. اجتماعيًا، ترسخت ثقافة الخوف والإرث الشعبي الذي يربط الذهب بالأمان: “زينة وخزينة”. سياسيًا، غياب الاستقرار والشفافية جعل الاستثمار مقامرة غير محسوبة، ففضل الناس الانسحاب إلى مناطق آمنة بدل المغامرة في المجهول.
لكن خطورة هذا المسار أنه يخلق مجتمعًا محكومًا بشبكات مصالح ضيقة. سوق الذهب يصبح محتكرًا، الدولار يتحرك في قنوات غير رسمية، والاقتصاد الموازي يزدهر بينما الاقتصاد الرسمي يعاني. في المقابل، المجتمعات التي وجّهت مدخراتها إلى الاستثمار أنتجت مستقبلًا مختلفًا: المغرب بنت قاعدة صناعية في السيارات والطاقة المتجددة، كوريا الجنوبية صنعت شركات عملاقة من رحم التصنيع، وسنغافورة حوّلت الاستثمار إلى رؤية قومية طويلة المدى. هذه النماذج لم تكتف بالفرجة على الشاشات، بل صنعت شاشاتها الخاصة المليئة بأرقام النمو.
الذهب يلمع، والدولار يفرض هيبته، لكن لا أحد منهما يبني وطنًا. التكديس يحميك من الخسارة المؤقتة، بينما التشغيل يخلق وظائف ويصنع مستقبلًا. الأول حالة دفاعية، والثاني حركة هجومية تفتح أبواب التقدم.
اليوم تقف مصر أمام سؤال محوري: هل ستظل أسيرة شاشة الأسعار، تسأل كل صباح “بكام الذهب والدولار؟”، أم ستصنع شاشتها الخاصة التي تعرض “كم مصنع افتتح؟ كم وظيفة جديدة خلقت؟ كم براءة اختراع خرجت للنور؟”. القرار في النهاية ليس قرار البنك المركزي وحده ولا السوق، بل قرار المجتمع نفسه: أن يظل مُتفرجًا… أو أن يصبح مشاركًا.